الملف التركي 16
5/6/2013
احتجاجات تركيا.. ليست مشكلة حديقة فقط؟!
بقلم : محمد عبد القادر
معهد العربية للدراسات
شكلت أحداث "ميدان تقسيم" بمنطقة بشكتاش بقلب مدينة اسطنبول أزمة كاشفة لطبيعة القلق الذي بات ينتاب قطاعات واسعة داخل المجتمع التركي من السياسات الاجتماعية، التي غدا يتبناها حزب العدالة والتنمية الحاكم، خلال الفترة الماضية، فأسباب الاحتجاجات العارمة التي شهدها الميدان الأشهر في تركيا، وما ترتب عليها من أحداث عنف ومواجهات وعمليات كر وفر بين الشرطة المحلية والمحتجين، لا تتعلق باتجاه الحكومة التركية إلى تحويل حديقة عامة أقيمت على أنقاض ثكنة عسكرية عثمانية، إلى مركز تجاري يعيد إحياء "مبني عثماني" هدم بعد إعلان دولة مصطفى كمال أتاتورك في عشرينيات القرن الخالي.
ذلك أن جوهر المشكلة في حقيقتها يرتبط بنهج حزب العدالة في إقصاء المعارضة وازدرائها وتقييد الحريات العامة على النحو الذي جعل شارع الاستقلال المتفرع من ميدان تقسيم يشهد مظاهرات شبه أسبوعية للتعبير عن معارضة سياسات الحكومة، وهى مظاهرات طالما رفعت خلالها لافتات وتم ترديد شعارات تندد باتجاهات "الحكومة الأردوغانية"، التي تبغي، وفق القائمين علي هذه التظاهرات، أسلمة الدولة وتديين المجتمع وإسقاط العلمانية وتبديل الهوية التركية.
أخطاء الحكومة واتساع المظاهرات
وعلى الرغم من أن الكثير من هذه المظاهرات ظل التعامل الحكومي معها يتمثل في متابعة القوات الأمنية للأحداث على الأرض، والتواجد على مقربة منها دون التدخل أو تقييد حركتها، إلا أن الحكومة التركية يبدو أنها تأثرت مؤخرا بنمط التعاطي الأمني في جوارها الجغرافي مع المظاهرات المماثلة، على النحو الذي دفعها إلى انتهاج الحل الأمني واستخدم العنف لقمع المتظاهرين في ميدان تقسيم، بما أدى إلى إشعال حركة الاحتجاج واتساع المظاهرات، لا وقفها أو إنهائها، لتمتد إلى ساحات مدن أخرى مثل أنقرة وأزمير وديار بكر، لتصل التظاهرات بعد ذلك إلى ما يزيد عن نحو 90 تظاهرة في 48 محافظة تركية.
إنذارات تظاهرات سابقة:
وقد كانت التطورات التي شهدتها تركيا خلال الذكرى السنوية الأخيرة لتأسيس الجمهورية في 29 أكتوبر الماضي بمثابة الإنذار الأول أو "الكارت الأصفر" الذي لم تعيه الحكومة جيدا، ويرتبط بأن حركة المعارضة على الأرض تتسع، وأن خطواتها لاستغلال المناسبات العامة أو الأحداث الطارئة، تمثل إستراتيجيتها الجديدة للحشد والتنديد بسياسات الحكومة التركية، حيث شهد العيد الوطني الأخير مظاهرات عارمة شارك فيها الآلاف من الشباب ونظمتها جمعية الفكر الكمالية (add)، وشارك فيها كل من حزب الشعب الجمهوري (chp)، وحزب اليسار الديمقراطي (dsp)، وحزب العمال (lp)، وتمركزت في ساحة أولوس، حيث مقر البرلمان القديم الذي شهد إعلان قيام الجمهورية التركية المعاصرة، وبالقرب من ضريح مصطفى كمال أتاتورك في قلب العاصمة أنقرة.
وعلى الرغم من أن التعامل الأمني العنيف لمنع المتظاهرين من الوصول إلى قبر أتاتورك لم يحل دون قدرة المتظاهرين إلى الوصول إليه، بل واتساع الاحتجاجات وامتدادها لعدد من المدن الأخرى، غير أنه أعطى دلالة مهمة لإمكانية تفاقم الأحداث في تركيا بسرعة وتحولها إلى مواجهة وتصادم بين قوات الأمن والمتظاهرين.
كما أن الحدث ذاته أوضح التداعيات التي يمكن أن تترتب على استمرار انتهاج الحلول الأمنية مع المتظاهرين والمعارضين، خصوصا بعد أن حدثت مواجهة سياسية بين كل من رئيس الدولة، عبد الله جول، الذي رفض التعامل الأمني مع حركة الاحتجاج ورئيس الحكومة، رجب طيب أردوغان، والذي انتقد بدوره موقف جول بشدة قائلا إن "صلاحيات الرئيس معروفة وصلاحيات رئيس الوزراء معروفة، وأن الرئيس لا يجب أن يتدخل في هذا الأمر، لأن البلد لا تدار برأسين، وإذا كان هناك من يريد تحويل تركيا إلى النظام الرئاسي فأنا أول من يساند ذلك، وحينها يستطيع الرئيس أن يتدخل، لكن قبل ذلك فإن صلاحيات كل مسئول واضحة".
هذا الانقسام السياسي الذي أوجده أردوغان بمواقفه المتشددة التي ترتبط في أحد أهم وجهها بطبيعة نشأته في حي "قاسم باشا" الشعبي بمدينة اسطنبول، (أقرب إلى حي "شبرا" بالقاهرة)، عزز من قدرة المعارضة على شحذ المعارضين، استغلالا لأخطاء أردوغان وانتقاما مما يرونه ديكتاتوريته، فالمظاهرات التي بدأت في ميدان تقسيم مؤخرا لم تكن صاخبة، وإنما تمثلت في استلهام الشباب تجربة "ميدان التحرير"، من خلال "احتلال المنتزه" والاعتصام به باعتباره محل "الصراع الرمزي"، بين من يُعتبر أنه يريد إعادة إحياء الماضي بمكنونه الثقافي ومن يدعي أنه مع الإبقاء على الحاضر بمضمونة الحداثي.
نجاح المتظاهرين وفشل الحكومة
إن لجوء الشرطة إلى العنف لفض "الاعتصام الرمزي" والاعتداء على المتظاهرين أفضى إلى اتساع حركة الاحتجاج في مكان يعد بطبيعته مركز السياحة وبؤرة الأضواء في مدينة اسطنبول، ومع اتساع حركة التظاهر وازدياد عدد المتظاهرين والمحتجين، انتقلت حركة الاحتجاجات من مدينة إلى أخرى، ولقت صدا واسعا لدى رموز فنية وثقافية وصحفية بارزة، فتحولت المظاهرات المحدودة إلى احتجاجات ضخمة سريعا، وجهت من قبل قوات الأمن باستخدام الوسائل القهرية لإفشالها وشل حركتها ومنع تقدمها، وهو ما أعاد مشاهد وأحداث "الربيع العربي"، ولكن هذه المرة في قلب تركيا وفي مركز مدينتها الأشهر عالميا اسطنبول.
استخدام الحل الأمني من قبل الحكومة أوضح أنها لم تستفد من تجربة دول "الربيع العربي"، فيما مثل قيام عدد من المحتجين بـ"احتلال" ميدان تقسيم والاعتصام ومواجهة الآلة الأمنية بإصرار وتحد، ومن خلال توظيف المنتديات الاجتماعية ومواقع التواصل الاجتماعي لشحذ المواطنين لمعارضة سياسات الحكومة، أوضح ذلك القدرة على الاستفادة من تجارب الشعوب العربية التي ثارت على حكامها.
ومع أن الحكومة التركية استطاعت أن تعيد التوازن إلى مقارباتها لحل أزمة المظاهرات من خلال الاعتراف بالاستخدام المفرط للقوة وإقرار الابتعاد عن التعامل الأمني مع المتظاهرين وظهور رئيس الوزراء والمسئولون الأتراك سريعا على التليفزيون التركي أكثر من مرة للتعليق على الأحداث، إلا أن تصريحات أردوغان أوضحت أن "عصبيته" الزائدة" قد تدفع بمزيد من التوتر.
يرتبط ذلك بما أشير إليه من أن التظاهرات ذات طبيعة أيديولوجية، وأن المعارضة تستغل الاحتجاجات لإشعال الأوضاع، موجها لكمال كيلجدار اوغلو، زعيم حزب الشعب الجمهوري، أكبر الأحزاب المعارضة، تحذيرا شديد اللهجة قائلا فيه "إذا استخدمت تعبيرات استفزازية، فلن يسامحك شعبنا أبدا، وإذا كنت قادر على حشد مائة ألف، فأنا لدي القدرة على حشد مليون شخص". هذا الخطاب المتشدد يمكن حال نفاذه أن يفضى إلى اتساع أنماط المواجهة ليس وحسب بين المتظاهرين وقوات الأمن، وإنما أيضا بين المواطنين الأتراك وبعضهم البعض تبعا لانتمائهم السياسي ونمط توجههم الأيديولوجي، بما من شأنه أن يعمق الأزمة داخل المجتمع التركي، ويزيد من حدة الاستقطاب السياسي.
مآلات الوضع في تركيا
على الرغم من أن الأصوات المعارضة تعالت، وتحولت المطالب إلى إسقاط حكومة أردوغان، بعد إثبات إخفاق قدرة الأداة الأمنية على قمع المتظاهرين، بما أدى إلى تضاعف وتيرة التنديد برئيس الحكومة من خلال رفع شعارات عديد كان أبرزها "نحن هنا يا طيب. أين أنت؟"، وكذلك بعد أن اتسعت مشاركة شباب الجامعات في الاحتجاجات اليومية، واتحدت روابط الأندية الرياضية (الألتراس) للتنديد بالحكومة، التي استطاعت عبر أخطاء التعامل مع الأزمة أن تجمع وتوحد معارضيها داخل أشهر وأهم ميادينها، غير أن قدرة الحكومة على تجاوز هذه الأزمة سيرتبط بقدراتها على التعامل مع الأسباب الأساسية التي ضاعفت من وتيرة التظاهرات والاحتجاجات في تركيا وزادت من زخمها الشعبي.
هذه الأسباب، يتعلق جوهرها بالبعد عن التشريعات التي طرحتها الحكومة مؤخرا والتي تقيد الحريات العامة من وجهة نظر الكثيرين من القطاعات الشعبية، خصوصا الشبابية منها، والتي رغم أن الكثير منها غير مسيس، إلا أنه يعتبر أن توجهات الحكومة تقيد حرياته الشخصية، خصوصا بعد اتجاهها إلى فرض قيود على بيع المشروبات الكحولية، بما أفضى إلى تنامي القلق من جراء عمق الروابط المعلنة بين السياسات والدين، وعدم الالتفات لمطالب المنظمات المجتمعية المختلفة، خصوصا ما يتعلق منها بالحريات العامة، وغياب الشفافية حيال العديد من القضايا لعل أبرزها قضية تسوية المشكلة الكردية.
هذا في الوقت الذي يتنامى فيه القلق من توجه الحكومة التركية لتبني مشروعات مثيرة للجدل من أجل حشد قاعدتها الانتخابية مثل إثارة قضية أحقية المحجبات في العمل في المؤسسات الحكومية العامة، وتدشين عدد من المشروعات ذات الطبيعة الرمزية الضخمة مثل إقامة جسر ثالث على مضيق البوسفور يحمل أسم "سليم الأول"، وتدشين مسجد ضخم على الطراز العثماني بقلب اسطنبول يجعل من أردوغان أقرب إلى أحد السلاطين العثمانية.
هذه المشروعات تلقى تأييدا واسعا من قبل أنصار العدالة والتنمية، لكنها في الوقت عينه تقابل بهجوم ضاري من قبل تيارات وأحزاب معارضة.
وعلى الرغم من أن تزايد حدة الانقسام واتساع مظاهر الاستقطاب يحمل تهديدات شديدة على المشروع السياسي لحزب العدالة والتنمية، الذي يواجه ثلاث استحقاقات انتخابية، خلال الأعوام الثلاثة القادمة، حيث الانتخابات البلدية في 2014، والبرلمانية في 2015، والرئاسية في 2016. كما يحمل ذلك تهديدات مماثلة لمشروع أردوغان ليصبح أول رئيس لتركيا بصلاحيات كاملة حال "النجاح الصعب" في إقرار الدستور التركي الجديد.
ولكنها عابرة:
بيد أن هذا لا يعني بصورة أو بأخرى أن هذه التظاهرات حتى الآن قادرة على إسقاط أو خلخلة الحكومة التركية، ذلك أنه، وفق المؤشرات الراهنة، مازال بإمكان "العدالة والتنمية" البقاء في الحكم حتى حال تأزم الوضع والدعوة لانتخابات مبكرة، كما أن قدرة الجيش على التدخل في الحياة السياسية ضعفت كثيرا، لا سيما بعد محاكمة قادة انقلاب عام 1980، وقادة "تنظيم ارغنيكون"، الذي استهدف الانقلاب على حكم أردوغان عام 2009.
ومع ذلك، فإن اتخاذ الحكومة التركية خطوات للخلف وتأجيل بعض مشروعات القوانين المثيرة للجدل والتخفيف من حدة الخناق على الحريات العامة، وإعادة النظر بشأن الحريات الإعلامية وإلغاء أو ترحيل المشروع الخاص بإنشاء مركز تجاري في ميدان تقسيم، وكذلك بعض المشروعات الأخرى التي لا تلقى تأييدا من قبل أغلب الأحزاب والجماعات المعارضة قد يعني نزع فتيل الأزمة وعزل هذه الأحزاب عن بعض الحركات اليسارية المتشددة وبعض الجماعات الهامشية الأخرى، وهو أمر لن يتحقق بدوره إلا حال إنهاء العمل بسياسات الأمر الواقع وتخفيض حدة "الغرور الذاتي"، الذي تسبب فيه ضعف المعارضة وسيطرة الحزب الحاكم على أغلب مؤسسات الدولة، وفق ما يطلق عليه في بعض الأدبيات الاجتماعية "تسمم السلطة"، بسبب ما تستشعره من قوة وهمية في غالب الأحيان تفضي إلى سقوطها.


رد مع اقتباس