قراءة في سياسة المجلس العسكري المصري داخلياً وخارجياً

فتح معبر رفح لتنفيس احتقان الداخل وإعادة ضبط العلاقة بتوازن مع حماس و"إسرائيل"

مركز ستراتفور الاستراتيجي، واشنطن

الملخّص:

أعلنت مصر اليوم أنها ستفتح معبر رفح على الحدود مع قطاع غزّة في 28 أيار/ مايو الماضي، في واحد من عدة تعديلات طفيفة للسياسة الخارجية أدخلها المجلسُ الأعلى للقوات المسلّحة الذي يحكم البلاد منذ شهر شباط/ فبراير الماضي، حيث يسعى المجلس للمحافظة على الاستقرار داخل البلاد وفي محيطها عبر المحافظة على توازن دقيق، فهو يرغب في أن يرى مواطنوه أن المجلس يؤْذن بحقبة جديدة في مصر، ويتعين عليه أيضاً الحرص على ألاّ ترى فيه "إسرائيل" تهديداً لعلاقتها الاستراتيجية بمصر. فالواقع السياسي الجديد في المنطقة غداة ما يسمى "ربيع العرب" لم يترك للقاهرة خياراً سوى سلوك هذا المسار.

التحليل:

من المقرر أن تفتح مصر معبر رفح على حدودها مع قطاع غزّة في 28 أيار، في ما يُعتبر آخر تحوّل في جملة تحولات عديدة في السياسة الخارجية لجأ إليها المجلس الأعلى للقوات المسلّحة منذ رحيل مبارك. وفي الوقت عينه، عدّل المجلسُ طريقة عمله في الداخل في سياق تعامله مع المعارضة متعددة الأطياف محاولاً إلى جانب ذلك تعزيز مكانة القاهرة بوصفها جهة فاعلة على الصعيد الإقليمي.

الهدف النهائي للمجلس الأعلى هو صون الاستقرار والمحافظة على النظام العسكري الذي حكم البلاد منذ نحو ستين سنة، وهو ما يُلزمه بالمحافظة على توازن دقيق بين الأمرين. لذلك، يسعى على صعيد الجبهة الداخلية لإيجاد تصور بأن الجيش يقود البلاد في حقبة جديدة تلي خلع مبارك من خلال السير بالبلاد نحو إجراء انتخابات، وتقديم مسؤولين سابقين من "الحزب الوطني الديمقراطي" الحاكم سابقاً للمحاكمة، وإدخال تعديلات طفيفة في السياسة الخارجية، لا سيما في ما يتعلق بإسرائيل وحماس. لكنّ الجيش سيسعى في غمرة هذه التحركات لضمان تماسكه بوصفه المرجع الأساسي للسلطة في البلاد مع تجنّب إثارة تشنجات مع "إسرائيل" تصل إلى حدّ انهيار اتفاقية السلام بين الطرفين مما قد يجعل اندلاع صراع ساخن بينهما أمراً ممكناً.

إدارة التغيير في السياسة الداخلية:

الدرس الرئيسي الذي استخلصه الجيش المصري من أحداث كانون الثاني وشباط، هو أن الطرق التي استُخدمت طوال سنين في المحافظة على الاستقرار الداخلي باتت خطرة في ظل المناخ السياسي الجديد. وسيفعل النظام ما يتوجب عليه فعله لضمان بقائه، لكنّه سيتّبع استراتيجية جديدة تقوم على توليد انطباع بأن "الجيش والشعب يد واحدة"، وهي العبارة التي ردّدها المتظاهرون في ميدان التحرير.

الأسلوب الرئيسي الذي سيتّبعه المجلس الأعلى للقوات العسكرية في استراتيجيته الجديدة هو السير بالبلاد نحو إجراء انتخابات ديمقراطية. فالمجلس يؤْثر امتلاك السيطرة على ممارسة الحكم، لذلك نجده يسعى للانتقال بسرعة إلى نظام سياسي متعدد الأحزاب. ومن المقرّر إجراء الانتخابات البرلمانية في أيلول/ سبتمبر المفبل وإجراء الانتخابات الرئاسية بعد ذلك بستة أسابيع، علماً بأن باب المشاركة مفتوح أمام الأحزاب السياسية بمختلف أطيافها، مما سيسمح لحركة "الإخوان المسلمين" بتأسيس أول حزب سياسي منذ نشأتها، إلى جانب العديد من الجماعات السلفية.

لعل المراد من تنظيم الانتخابات بهذه السرعة، والسماح للجميع بالمشاركة في العملية السياسية، هو السماح للجيش بتوليد انطباع بأنه يريد تسليم السلطة للشعب مع تقليص خطر حصول أي جماعة على الوقت أو الحيّز الكافي لرصّ صفوفها، لكنّ الجيش الذي يمثّل المرجع النهائي للسلطة في البلاد سيكون على أتم الاستعداد دائماً للتدخل إذا أحسّ بخطر حقيقي يهدد وضعه.

إدارة التغيير في السياسة الخارجية:

السياسية الخارجية أداة أخرى في حوزة المجلس الأعلى للقوات المسلّحة يسعى من خلالها لإدارة الشؤون الداخلية. ولمّا كان هناك عدد كبير من المصريين المستائين من إقامة القاهرة في عهد مبارك علاقة وثيقة بـ"إسرائيل"، ومستائين بالتالي من تردّي علاقة القاهرة بالفلسطينيين، سعى المجلس الأعلى لتغيير التصور حيال كيفية تعاطي مصر مع جيرانها في الشمال. وقد بدأت القاهرة بالفعل باستخدام ورقة الغاز الطبيعي في التعامل مع "إسرائيل"، رافضة استئناف ضخ الغاز عقب توقفه إثر وقوع سلسلة هجمات استهدفت الأنابيب التي تنقله، إلى أن يتفق الطرفان على زيادة سعره. كما صرّح المجلس الأعلى بأنه يدرس إمكانية استئناف العلاقات الدبلوماسية مع إيران، وهو أثار حنق "إسرائيل" من قبل بسماحه لسفينتين حربيتين إيرانيتين متوجهتين إلى سوريا باجتياز قناة السويس في شباط.

على أن طريقة تعاطي المجلس الأعلى مع الفلسطينيين هي الميدان الذي يمكن للقاهرة أن تحقق فيه أعظم المكاسب في ميدان السياسة الخارجية. فقد كان اتفاق المصالحة الذي وقعته حركتا حماس و"فتح" ثمرة جهود بذلتها القاهرة، وكان وسيلة استخدمها المجلس الأعلى لإغراء حماس بالعودة إلى اللعبة السياسية ليتسنى له احتواء هذه الجماعة المسلّحة على نحو أكثر فاعلية في غزّة. ذلك أن توفير حافز لحماس للتوقف عن شنّ الهجمات على "إسرائيل" يخدم مصالح المجلس الأعلى لأنه يجرّد المحتجين في شوارع القاهرة من قضية محتملة (استغلها المحتجون من قبل أثناء عملية الرصاص المصبوب). وما القرار بفتح معبر رفح الحدودي، الذي أُعلن عنه في الأصل بعد يومين من توقيع اتفاقية المصالحة وحُدد يوم 25 أيار لتنفيذه بشكل رسمي، سوى آخر الجهود التي يبذلها المجلس الأعلى لإظهار تأييده المتزايد للفلسطينيين بغزّة.

الجمهور المحلي الذي يسعى المجلس الأعلى لاستقطابه:

يتعامل المجلس الأعلى للقوات المسلّحة مع ثلاث جماعات منفصلة من خلال الأعمال التي أتينا على ذكرها، وأعني الناشطين في ميدان التحرير، والإسلاميين (وبخاصة الإخوان المسلمون)، والأشخاص الذين لا ينتمون إلى هاتين الجماعتين.

عاد الناشطون المطالبون بالديمقراطية الذين أشرفوا على القسط الأكبر من المظاهرات الأولى إلى ميدان التحرير في 27 أيار، للإعلان عن "ثورة ثانية" وأطلقوا على ذلك اليوم اسم "يوم الغضب الثاني"، إشارة منهم إلى أحداث 28 كانون الثاني. فبعد مضيّ نحو ثلاثة شهور ونصف على خلع مبارك، تبيّن للجماهير التي احتشدت في ميدان التحرير وحلمت بتغيير الواقع في مصر بشكل جذري أن القليل جداً قد تغيّر فعلاً. فلا يزال الاقتصاد يترنّح، ومعدلات الجريمة تزداد، والحرّية السياسية ليست أفضل حالاً مما كانت عليه في عهد مبارك. وما عدا أيام البهجة القصيرة التي تلت تنحي مبارك مباشرة في 11 شباط، لم تتوقف المظاهرات من الناحية الفعلية. ومع ذلك، تبددت الآمال التي كانت معلّقة على المجلس الأعلى، ومن هنا جاءت الدعوة إلى تنظيم مظاهرات واسعة النطاق للمطالبة بطائفة من الإصلاحات الأخرى.

لم يلق تحديد موعد قريب لإجراء الانتخابات استحساناً لدى الناشطين المطالبين بالديمقراطية بقدر ما لقيه لدى منافسيهم الإسلاميين، وإذا كانوا يؤيدون ابتعاد السياسة الخارجية عن مساندة المواقف "الإسرائيلية" علناً، فهم أشد اكتراثاً بأوضاعهم الخاصة منهم بمحنة الفلسطينيين، وهذا ما يبقيهم في الشوارع. والمجلس الأعلى الذي يتعامل مع مطالبهم بجدّية يعرف أيضاً أن هذه الشريحة من المجتمع ليست كبيرة إلى حدّ إضعاف استحواذ الجيش على السلطة. ولا شك أن المظاهرات المصرية شكلت حدثاً بسيطاً نسبياً استخدمه الجيش ستاراً لتنظيم انقلاب هيأ له بعناية. وأي جولة ثانية من المظاهرات لن تكون أنجح من الأولى ما لم يستقطب الناشطون في ميدان التحرير جموعاً غفيرة من الشرائح التي لم تتعاطف معهم من قبل في المجتمع المصري.

الإسلاميون هم الجماعة الثانية التي يتوجه إليها المجلسُ الأعلى، وبخاصة "الإخوان المسلمون". ترى هذه القطاعات أنها ستحقق أعظم المكاسب من النافذة التي توفرها الانتخابات ولذلك التزمت بموقف مساند للمجلس العسكري. وبناء على ذلك، قاطعت مظاهرات 27 أيار في ميدان التحرير، ورفضت الدعوات المُطالِبة بإشعال ثورة ثانية لتركّز على انتخابات أيلول. كما أن السياسة الخارجية المصرية المتبدّلة حيال "إسرائيل" وحماس ترضي الإسلاميين أكثر مما ترضي الناشطين ذوي التوجهات العلمانية في ميدان التحرير. ولا ينبغي أن ننسى أن حماس فرع للإخوان المسلمين في النهاية، لكن ما كان لذلك أهمية لو لم يجد الإسلاميون مصلحة في الوقوف بجانب المجلس الأعلى للقوات المسلّحة وتأييد مسيرته نحو الديمقراطية. وهذا يساعد المجلس بالمقابل على منع المظاهرات المستمرة من بلوغ مستوى حرج هو بمثابة الفرصة الوحيدة لإشعال ثورة شعبية حقيقة في مصر.

الجماعة الأخيرة التي يتوجه إليها المجلس الأعلى بتحركاته هي الغالبية العظمى من المصريين الذين لم ينضموا إلى الناشطين في ميدان التحرير ولا إلى الإسلاميين. لم يشارك هؤلاء في الاحتجاجات المناوئة لنظام مبارك، والمجلسُ الأعلى حريص على إبقائهم بعيداً عن الشوارع. تقتصر عامة مطالب هذه الشريحة من المصريين على تحسين الأوضاع الاقتصادية والأمنية، وهي الأوضاع التي تردّت كثيراً منذ كانون الثاني. لكن لا الانتخابات ولا المناورات في السياسة الخارجية تحدث أثراً عميقاً في آرائها، ولذلك سيؤْثر الجيش التحلل من مسؤوليات الحكم لئلا يُلام على المشكلات المستمرة التي تعصف البلاد.

التحولات والفرص الإقليمية:

المحرّك الأساسي للتحولات التي تشهدها السياسة الخارجية المصرية منذ تولّي المجلس الأعلى للقوات المسلّحة السلطة هو السعي لإقامة علاقة أكثر توازناً مع "إسرائيل"، بحيث يقوم هذا التحول العام على شعور متبادل لدى البلدين بالرغبة في عدم حدوث تبدّل جوهري في العلاقة بينهما يضع مصر في مواجهة مباشرة مع الجيش "الإسرائيلي" ويُضعف حسّ "إسرائيل" بالأمن في المنطقة العازلة بسيناء.

وكما لم يطرأ على علاقة مصر الجيوسياسية بإسرائيل أي تغيير، لم تتغير أهداف مصر الاستراتيجية من علاقتها بحماس التي يريد المجلس الأعلى منعها، كما كان نظام مبارك، منع الإخلال باستقرار مصر. لكنّ الذي تغيّر هو الوسيلة التي تستخدمها مصر في تحقيق ذلك.

سعت مصر سابقاً لمحاصرة حماس وسجنها داخل غزّة. وبناء على ذلك، أبقت مصرُ معبر رفح مغلقاً عقب استيلاء حماس على غزّة في حزيران 2007، في ما عدا أوقات قليلة. أرادت القاهرة النأي بنفسها عن تحمل أي مسؤولية عن الهجمات العسكرية التي تشنها حركة حماس على إسرائيل ومنع الحركة من التوغل في الأراضي المصرية. ولئن كانت شبكة الأنفاق السفلية التي تربط غزّة بسيناء والفساد المستشري في وحدات حرس الحدود المصرية ونشاط المهربين أضعف هذه الجهود، فإن نية مصر في محاربتها كانت الأهم على صعيد التصورات.

لكنّ الأمور تغيرت في الشهور القليلة الماضية عندما شرعت حماس في إطلاق إشارات تُنْبئ بجنوحها إلى الحلّ السياسي. لا ريب أنه يوجد في الحركة عناصر يُستبعد بدرجة كبيرة تخليها عن الصراع مع "إسرائيل"، وأن الوضع في الأراضي الفلسطينية يمكن أن يتغير في أي لحظة لأن الصراع الإسرائيلي يبقى مهيأً للجنوح إلى الحلول العسكرية، مما يوفر سانحة لجماعات مسلحة منشقة تسعى لإسقاط القيادة السياسية التي تتبوؤها حماس.

يشير الدور الذي لعبته مصر في تيسير إبرام اتفاقية المصالحة بين فتح وحماس إلى أن المجلس الأعلى للقوات المسلّحة يحاول احتواء حماس بتقريبها إليه. وما الاتصالات المستمرّة مع سائر الأطراف الضالعة في هذه العملية سوى وسيلة تستخدمها مصر لامتلاك تأثير أعظم في الفلسطينيين، في حين أن فتح معبر رفح وسيلة لإثبات حسن نيتها تجاه حماس. (شعرت مصر بتلاشي تأثيرها في حماس بدرجة كبيرة منذ أن استولت على غزّة، والعزلة التي عاشتها حماس بعد ذلك وفّرت فرصة لإيران من خلال حليفتها سوريا ليكون لها تأثير متنام في الحركة). كما تناهت شائعات إلى مصادر "مركز ستراتفور الاستراتيجي" بأن المجلس الأعلى عرض على خالد مشعل رئيس المكتب السياسي في حماس المقيم بدمشق نقل مقرّه إلى القاهرة. وستكون تلك أداة تُضعف بها مصرُ موقف سوريا لدى الفلسطينيين وتستحوذ بواسطتها على مزيد من السيطرة على الأحداث في غزّة لأنه سيسهل على المجلس الأعلى كما هو واضح مراقبة نشاطات حماس عندما تقيم قيادتها الخارجية بالقاهرة. لكنّ مصر تتردد في القيام بهذه الخطوة مما يفسح المجال أمام حماس، إذا ما غادرت سوريا، للانتقال إلى قطر التي ذُكر أنها عرضت الشيء نفسه على مشعل.

هذه مقاربة خطرة. فإذا جنحت حماس إلى الحلّ العسكري بعد هذه الخطوات، سترزح إسرائيل تحت ضغوط متعاظمة لتحميل مصر المسؤولية. وهذا يفسر القيود التي فرضتها مصر على من يمكنه اجتياز معبر رفح وحظرها نقل البضائع عبره. وهذا

يفسر أيضاً بطء خطواتها في ترميم علاقاتها بإيران. والراجح أن المجلس الأعلى للقوات المسلّحة يفطن لهذه المجازفة، ومن شبه المؤكد أن مصر وإسرائيل تجريان اتصالات طوال هذه العملية لتهدئة المخاوف الصهيونية، حتى إن "إسرائيل" لزمت

الصمت حيال الأخبار التي ترددت عن فتح معبر رفح، مشيرة بذلك إلى أنها ربما تعي أن الخطوات المصرية ليست مدفوعة بأي رغبة في إحداث تغيير في العلاقة الاستراتيجية الأساسية بينهما.

تؤْثر "إسرائيل"، كما المجلس الأعلى على الأرجح، التعايش مع مصر "القديمة"، لكنّ التغير الجارف في المناخ السياسي في العالم العربي (أو ما يسمى ربيع العرب) فرض على الطرفين تفهّم وجوب تغيير الأساليب المتبعة في استراتيجية المحافظة على الاستقرار في المنطقة.