الملف التركي 10

تركيا.. عشر سنوات من حكم العدالة والتنمية

محمد عبد القادر خليل

باحث مصري متخصص في شؤون تركيا والمشرق العربي

معهد العربية للدراسات

استطاع حزب العدالة والتنمية بقيادة رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان أن يحقق العديد من الإنجازات السياسية والاقتصادية التي لم يحققها أي من الأحزاب السياسية التي تناوبت على حكم تركيا منذ إجراء أول انتخابات ديمقراطية عام 1950، والتي فاز بها الراحل عدنان مندريس، وأهلته لأن يقضي عشر سنوات في السلطة، انتهت بإعدامه بسبب سياساته التي اعتبرتها المؤسسة العسكرية وقتذاك تمثل تهديداً لمبادئ الدولة العلمانية.

بيد أن أردوغان استطاع خلال نفس الفترة (عشر سنوات) إقصاء هذه المؤسسة عن الحياة السياسية، وأن ينفي عن نفسه تهمة تهديد العلمانية التركية، وذلك بعد أن استلهم الخبرات ليس وحسب من تجربة مندريس، وإنما أيضاً من تجارب تورغوت أوزال ونجم الدين أربكان، على نحو بات يدفعه للتطلع إلى البقاء في سدة السلطة حتى عام 2023، والذي يمثل الذكرى المئوية الأولى لتأسيس الجمهورية التركية المعاصرة.

مشروع أردوغان الاقتصادي والسياسي

كشف رجب طيب أردوغان خلال كلمته في المؤتمر الرابع للحزب الحاكم، عن أطروحاته حيال تطورات الأوضاع السياسية والاقتصادية في تركيا، حيث يستهدف الحزب تحقيق نهضة اقتصادية كبرى لتغدو تركيا واحدة من أكبر عشر اقتصاديات على مستوى العالم، ليبلغ بمقتضى ذلك نصيب المواطن التركي من الدخل القومي نحو 25 ألف دولار سنوياً بدلاً من 11 ألف دولار في 2012، وذلك بعد أن قدر هذا الدخل بنحو 3500 دولار في نوفمبر/تشرين الثاني 2002.

وقد حققت تركيا طفرات اقتصادية مهمة خلال السنوات العشر الأخيرة تمثلت في ارتفاع الدخل القومي التركي من 230 مليار دولار إلى 774 مليار دولار. ووصلت نسبة النمو الاقتصادي إلى 8.5 في المائة بدلا من 5.3 في المائة. وارتفعت قيمة الصادرات التركية من 36 مليار إلى 135 مليار ومن المتوقع أن تصل إلى نحو 144 مليار دولار بنهاية عام 2012. وانخفضت نسبة البطالة بالتوازي مع ذلك من 9.8 في المائة بدلا من 10.2 في المائة. هذا بالإضافة إلى ازدياد عدد السياح من 13 مليون سائح إلى 31.5 مليون سائح سنويا، بإيرادات تقدر بـ23 مليار دولار، وهى تطورات أفضت في مجملها إلى أن تحتل تركيا المرتبة السادسة عشر عبر العالم من حيث قوة الاقتصاد.

وفيما يتعلق بالوضع السياسي، يسعى أردوغان إلى استكمال الإصلاحات السياسية التي أدت إلى إبعاد الجيش عن الحياة السياسية، وتغير الفكرة التي رسخت في أذهان قطاعات واسعة من الأتراك بأن مؤسسة الجيش وحدها حامية الجمهورية التركية، وأن قادة الجيش يمكن أن يكونوا بديلا عن السياسيين في تركيا.

ويهدف الحزب إلى استكمال ذلك من خلال إقرار دستور جديد بديلا عن دستور عام 1982، بما يحول دون حظر الأحزاب السياسية في تركيا، ويضمن إلزام المؤسسة العسكرية بأن تصبح أكثر شفافية، ويدعم مطالب الأكراد بالحصول على الخدمات العامة باللغة الكردية، ويحظر إصدار قوانين تتسم بالتمييز أو تحض على الكراهية، ويسقط "عتبة" الـ10 في المائة من أصوات الناخبين اللازمة لتمثيل الأحزابأحزابأ في البرلمان، والقضاء على التشريعات التي يستخدمها الجيش كذريعة للانقلابات، وضمان نزاهة القضاء وإلغاء المحاكم العسكرية العليا، وتحويل "قوات الدرك" إلى قوات مدنية تقدم خدمات الشرطة العامة.

المؤتمر العام وتحديد مصير الحزب

على الرغم من أن أهمية المؤتمر الرابع لحزب العدالة والتنمية والذي عقد في 30 سبتمبر 2012، قد تأسست على أنه كشف بعضا من ملامح سياسات وتوجهات الحزب سواء على الصعيد السياسي أو الاقتصادي خلال السنوات القليلة المقبلة، إلا أن التطور الأهم تعلق بطبيعة التطورات داخل الحزب الحاكم ذاته، سواء فيما يخص قضية تجديد وتغيير قياداته أو تحديد الشخصية التي ستخلف أردوغان في رئاسته، لاسيما أنه من المفترض أن يرحل أردوغان عن رئاسة الحزب بحلول الانتخابات الرئاسية في عام 2014، والتي يطمح إلى خوضها، وذلك بعد إقرار دستور جديد تتحول تركيا بمقتضاه من النظام البرلماني إلى النظام الرئاسي على النمط الأمريكي أو شبه الرئاسي على النمط الفرنسي.

وفيما يخص قضية تجديد قيادات الحزب التزاما بلائحته التي تقضي بعدم أحقية أعضاء الحزب في الترشح لعضوية البرلمان أكثر من أربع مرات أو ما مجموعه خمسة عشر سنة، فإن ذلك يطرح تساؤلات بشأن من سيخلف عدد كبير من رموز الحزب في الانتخابات المقبلة، وذلك بالنظر إلى أنه لا يحق لأكثر من سبعين نائبا من نواب الحزب الترشح في الانتخابات البرلمانية المقبلة. من بين هؤلاء أردوغان نفسه وبولنت أرينج نائب رئيس الوزراء والناطق باسم الحكومة، ووزير الداخلية إدريس نعيم شاهين ومساعد رئيس الوزراء علي باباجان ووزير العدل سعد الله أرغين ووزير الطاقة تانر يلديز وغيرهم من أقطاب الحزب الحاكم.

وفيما يخص قضية "خليفة أردوغان"، فيبدو أن تنحى أردوغان عن رئاسة الحزب التزاما بالقوانين المحلية التي تمنع عضوية رئيس الجمهورية في أيا من الأحزاب السياسية، ستكون المشكلة الأكبر، ذلك أن أردوغان استطاع خلال العقد الماضي أن يحول حزب العدالة والتنمية إلى "حزب أردوغان"، مما سيجعل خليفته مضطرا إلى الاضطلاع بدور "الكومبارس"، لاسيما أنه من المتوقع أن يظل أردوغان الرئيس الفعلي للحزب.

وعلى الرغم من أن أغلب الاتجاهات تشير إلى أن المرشح الأوفر حظا يعد رئيس الجمهورية عبد الله جول، غير أن عدم إعلان أردوغان خلال المؤتمر عن ماهية من سيخلفه، يرتبط بعدد من الإشكاليات الأساسية، أهمها تشكك أردوغان في قبول جول بان ينهض بذات الدور الذي اضطلع به دميتري مدفيديف في روسيا، لاسيما أن جول تجنب الحديث عن هذا الموضوع خلال الفترة الماضية، ولكونه شخصية لها حضور كبير داخل تركيا، وترشحه أغلب استطلاعات الرأي العام للبقاء في سدة الرئاسة لدورة ثانية وأخيرة، هذا فضلا عن أن وراءه تاريخ سياسي قد يدفعه إما لمواصلة العمل السياسي سواء في حزب جديد أو من خلال الترشح لرئاسة الجمهورية مرة أخرى.

هذا في وقت تشير فيه العديد من الاتجاهات إلى أن عبد الله جول ذاته ليس المرشح الوحيد لرئاسة الحزب، فهناك أيضا بولنت أرينج الرجل القوى في الحزب وأحد المؤسسين الكبار للحزب. يضاف إلى ذلك وزير الخارجية أحمد داوود أوغلو، والذي يعد الذراع الأيمن لأدروغان. وكذلك أيضا نعمان كورطوش Numan Kurtulmuş، الذي لم يحصل على أي منصب في الحزب، رغم أنه أستاذ جامعي وسياسي مخضرم سبق أن نافس أردوغان سياسياً، من خلال ترؤسه "حزب السعادة" (SP) الذي أنشأه الإسلامي الراحل نجم الدين أربكان، قبل أن ينشق عنه ويؤسس حزب "صوت الشعب" (HAS)، الذي انتهج خطا إسلامياً ناقداً لسياسات أردوغان الاقتصادية والخارجية. هذا إلى أن قام بحل حزبه وانضم في سبتمبر 2012، مع بعض قياداته، إلى حزب العدالة والتنمية.

كما يضاف إلى هؤلاء على باباجان "العمود الفقري" لقصة نجاح أردوغان اقتصاديا، وهناك كذلك دولت بهجلي، وهو زعيم حزب الحركة القومية اليميني (MHP)، والذي يهدف أردوغان إلى ضمه إلى الحزب الحاكم كونه من ناحية يمتلك قرابة 15 من أصوات الناخبين، ومن ناحية أخرى تأسيسا على رغبة أردوغان في ضمان أصوات حزبه في الانتخابات المقبلة، وسترتبط هذه الخطوة بقدرة أردوغان على إقناع بهجلي بدعم خططه للوصول إلى الرئاسة، وتبنى رؤيته حيال الدستور الجديد.

حزب العدالة وإشكاليات البقاء في الحكم

على الرغم من الإنجازات العديدة التي حققها أردوغان على مدار السنوات السابقة، غير أن التحديات التي سيواجهها منذ بداية العام القادم ستغدو أصعب، ذلك أن الحزب الحاكم مقبل على ثلاث امتحانات متتالية خلال السنوات الثلاث القادمة، فهناك الانتخابات البلدية في عام 2013، والانتخابات الرئاسية في عام 2014، والانتخابات البرلمانية في عام 2015.

هذه الامتحانات المتتالية سيخوضها حزب العدالة والتنمية بوجوهه الجديدة. ومع أن الحزب استطاع خلال الانتخابات التي أجريت على مدى العقد الماضي أن يزيد من شعبيته بعد كل انتخابات اعتمادا على أنه لا بديل جدي وحقيقي بالنسبة لقطاعات واسعة من المواطنين الأتراك، لاسيما من بات منهم يربط بين وجود الحزب في السلطة والحفاظ على معدلات النمو الاقتصادي والتطور التجاري والصناعي والاستقرار السياسي، إلا أن الحزب لازال يتبنى إستراتيجية "لا بديل" التي ضمنت له الفوز بأغلب الانتخابات التي خاضها خلال السنوات العشر الماضية.

بيد أنه يسعى إلى تحقيقها في الوقت الراهن عبر ضم أكبر العديد الأحزاب السياسية مثل حزب "الاتحاد الكبير" (BBP)، و"حزب السعادة" (SP)، والحزبان يمثلان معا أقصي اليمين المحافظ.

ومن أجل ضمان الحزب لفاعلية هذه الإستراتيجية بات يعتمد بالتوازي مع ذلك على سياسات "إخراس المنتقدين" من خلال التضييق على وسائل الإعلام والصحفيين، وذلك عبر توجيه توجيهات لمالكي الجرائد والقنوات التليفزيونية بعدم السماح لبعض الشخصيات بالتعليق على سياسات الحكومة، كما بات يمارس ضغوطا على بعض المؤسسات الإعلامية لفصل وتسريح بعض الشخصيات الإعلامية والصحفية، وذلك على نحو دفع العديد من المعارضين إلى استنكار قدرة الحزب على إحداث تحول ديمقراطي حقيقي في تركيا، فيما تفتقدها ممارساته الداخلية. وثمة من يشير في هذا الإطار إلى أن أعضاء المكتب التنفيذي للحزب (50 عضو) لم يعلموا باختيارهم خلال المؤتمر الأخير للحزب، إلا عندما قدم رئيس الوزراء قائمته للترشح في المؤتمر.

يضاف إلى ذلك أن الحزب بات يواجه من ناحية أخرى تحديات أكثر حدة تتعلق بتوتر علاقته مع حركة فتح كولن، وهى حركة اجتماعية لها جذور وامتدادات داخل كافة طبقات الشعب التركي، وكان لها دور كبير في نجاحات الحزب في كل الانتخابات الماضية. وقد تأججت العلاقة بين الطرفين بسبب الانتقادات المتوالية التي توجهها الحركة لسياسات الحزب، وهو التطور الذي تفاقمت أثاره بعد استدعاء رئيس جهاز الاستخبارات التركية هاكان فيدان في فبراير 2012 للإدلاء بأقواله بصفته مشتبها به في قضية اللقاءات السرية مع قادة حزب العمال الكردستاني، إذ أفضي ذلك إلى إدراك أردوغان بأن الحركة باتت تستهدفه شخصيا مستغلة في ذلك نفوذها المتنامي داخل مؤسسة القضاء، بما دفعه بإصدار تشريع لا يسمح باستجواب أو التحقيق مع رجال الاستخبارات إلا بعد إذن من رئيس الوزراء.

وتربط العديد من الاتجاهات في تركيا بين هذه القضية وبين قدرة الحزب على النجاح في الانتخابات البلدية القادمة، وهى الانتخابات التي ستعطى مؤشرات أولى على قدرة أردوغان على الوصول إلى مقعد الرئاسة عام 2014، لاسيما وأنها ستأتي في ضوء تطورين أساسيين:

أولاها: أن ثمة تزايد في القطاعات الشعبية التي ستتوجه إلى الاختيار بين المرشحين في ظل تشابه برامج الأحزاب، وتكرار حزب العدالة لرسائله السياسية، بناءا على شخصية المرشح وليس انطلاقا من طبيعة الحزب الذي ينتمي إليه، وترى بعض الاتجاهات الأكاديمية في تركيا أن كلمة "كفى" ستوجه للعديد من مرشحي حزب العدالة في هذه الانتخابات الثلاث المقبلة.

وثانيتها: أن ثمة حديث في الأوساط الصحفية في تركيا حول قضايا فساد تتعلق ببعض أعضاء الحزب الحاكم سيتم فتحها قضائيا خلال الفترة المقبلة، وهو ما قد يؤثر على فرص الحزب في الانتخابات.

السياسة الخارجية.. مزيد من التحديات

كان من الواضح أن القضية التي تراجعت على قائمة أولويات المؤتمر الرابع للحزب تتمثل في عضوية تركيا في الاتحاد الأوروبي، فخلال كلمة رئيس الوزراء التركي في المؤتمر العام تم التركيز على قضايا منطقة الشرق الأوسط، حيث تعرض أردوغان إلى كافة قضايا المنطقة، مؤكدا ثوابت الموقف التركي منها.

وعلى الرغم من أن توجه أردوغان قد ارتبط بحالة الجمود التي أصابت مفاوضات العضوية الأوروبية بسبب رئاسة قبرص الجنوبية للاتحاد الأوروبي، غير أن خطاب أردوغان مثل انعكاسا واضحا لسياسات حزبه حيال الاندماج والانخراط في تفاعلات منطقة الشرق الأوسط باعتبارها منطقة حيوية بالنسبة لتركيا، خاصة وأن تركيا مؤهلة وفق رؤية الحزب لقيادة هذه المنطقة لاعتبارات تاريخية وثقافية وسياسية واقتصادية.

ترتب على ذلك أن وجهت سياسية الحزب على الصعيد الخارجي بانتقادات حادة من قبل العديد من الأحزاب المعارضة، كونها أفضت إلى ارتباط تركيا بعدد كبير من الأزمات مع العديد من الدول المجاورة مثل اليونان وروسيا والعراق وإيران وسوريا وقبرص الجنوبية. وينظر البعض داخل تركيا إلى سياسة تركيا إزاء دول العالم الإسلامي باعتبارها تبغي إعادة إحياء الإمبراطورية العثمانية فيما يطلق عليه Neo-Osmanlıcılık.

هذه القناعات المتنامية بات يعززها البعض عبر الإشارة إلى طبيعة الضيوف الذين حضروا مؤتمر الحزب الأخير، حيث غلب عليهم الطابع الإسلامي، فمن مصر الرئيس محمد مرسي، ومن تونس زعيم حركة النهضة راشد الغنوشي، ومن فلسطين خالد مشعل رئيس المكتب السياسي لحركة المقاومة الإسلامية (حماس).

تأسست على ذلك انتقادات عديدة واجهها حزب العدالة، وتعلقت بكونه أضحى راعي حركة الإخوان المسلمين في المنطقة، وأنه حول تركيا إلى قاعدة لوجستية إقليمية للتيارات الإسلامية في المنطقة. كما أفضت مقارباته حيال الملف السوري إلى تصاعد حدة الأزمة الكردية وتعرض تركيا إلى عمليات كبرى من قبل حزب العمال الكردستاني، كما تعرضت بعض المدن المحاذية للأراضي السورية إلى عمليات قصف، بما أفضي بالنهاية إلى أصبحت مسألة الأمن التركي متوازية مع الأزمة الداخلية في سوريا.

ومن ثم يمكن القول إنه على الرغم من أن حزب العدالة والتنمية استطاع خلال السنوات القليلة الماضية، أن يحقق إنجازات حقيقية على الصعيد السياسي والاقتصادي، وفيما يخص قضايا العلاقات الإقليمية والدولية، غير أن هذا توازى داخليا مع سيطرة شبه كاملة على كافة مؤسسات الدولة وتراجع حاد في حرية التعبير والصحافة، وخارجيا مع تضرر علاقات تركيا مع أغلب دول الجوار، وهو الأمر الذي يجعل من سيطرة الحزب على الحكم في تركيا لعقد آخر من الزمان محل شك، وذلك إذا ما تقيد الحزب بتغيير نخبته وقيادته وحسب، دون أن يراجع أيضا بعض أفكاره التي تبنها وسياساته التي انتهجها خلال الفترة الأخيرة.


إضغط هنا لتحميل الملف المرفق كاملاً